في الوقت الذي تنهض فيه دمشق من تحت ركام العقوبات والحروب والمؤامرات، وتشق طريقها بثقة نحو مرحلة سياسية جديدة، تتداعى صنعاء وعدن، ومعها كامل الجغرافيا اليمنية، إلى قاع لا قرار له من الغياب والفوضى والخذلان. مفارقة صارخة، مؤلمة، ومخزية في آن معًا: سوريا، الدولة التي كانت مرادفًا للجحيم، تخرج من دائرة الحصار، واليمن، التي كانت تملك فرص النجاة، تختنق اليوم في مستنقع الغياب الكامل للقيادة. سوريا الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، تمضي اليوم بخطى واضحة لا لبس فيها نحو إعادة الاعتبار للدولة، وطي صفحة عقود من الخراب تحت نظام الأسد وأسياده الإيرانيين. سقوط بشار الأسد لم يكن مجرد نهاية لحقبة قمعية، بل كان بمثابة ولادة سياسية متجددة، خرجت فيها دمشق من الظل إلى ضوء القرار السيادي، وبدأت خطوات فعلية لتفكيك إرث إيران، وتحطيم أوهام التبعية. الانتصار السوري الجديد ليس فقط في كسر الحصار، بل في استعادة القرار الوطني، في شجاعة مواجهة الذات، وفي القدرة على صياغة مشروع وطني جامع. ما حدث في سوريا دليل حي أن النجاة ليست في انتظار المعجزات، بل في وجود قيادة تعرف ماذا تريد، وأين تتجه، وتشعر ولو بالحد الأدنى بمسؤوليتها تجاه شعبها ووطنها. اليمن تسقط لا لأن الحرب أقسى، ولا لأن العدو أشرس، بل لأنها تُركت لقيادات فاقدة للضمير، ضائعة البوصلة، عاجزة عن اتخاذ أي موقف وطني حقيقي. قيادة لا تعاني من قلة الموارد أو الرجال، بل من انعدام الإرادة. قيادة تعيش في الفنادق، بينما يعيش الشعب في الخراب. قيادة تتاجر بالجراح، وتبني مكاسبها على أنقاض الوطن.كل دول الإقليم تمضي في اتجاه التعافي، تخلع عباءة الماضي، وتضمد جراحها بإرادة سياسية صلبة. حتى تلك التي مزقتها الحروب، باتت تدرك أن مواجهة النفوذ الإيراني لم تعد رفاهية سياسية بل ضرورة وجودية. سوريا قالت كفى. العراق يراجع نفسه. لبنان يصارع. إلا اليمن… وحدها تقرر الارتماء في حضن إيران، وتتعامل مع أدواتها كجزء من المشهد لا كخطر وجودي. أي عبث هذا ؟ وأي عجز أكثر بشاعة من أن يُعامل العدو كحليف، ويُستبدل مشروع الدولة بسلطة ميليشيات ؟ حتى المناطق “المحررة” لا تختلف كثيرًا. سلطة غائبة، فوضى سلاح، لا أمن، لا صحة، لا تعليم، لا ماء، لا كهرباء، لا كرامة… فقط شعب يئن، و”شرعية” تثرثر في منافيها البعيدة. الفرق ؟ ببساطة: سوريا وجدت قيادة تعرف أين تضع قدمها، واليمن عالقة بين قيادات لا تعرف حتى أين تقف. في دمشق، هناك من قرر أن ينهض رغم كل شيء. وفي صنعاء وعدن، هناك من قرر أن يتنصل من كل شيء. إنها ليست مؤامرة دولية، ولا قدرًا سياسيًا، بل كارثة اسمها “غياب القيادة”. ففي غياب القائد، تتحول الأوطان إلى ساحات تصفية حسابات، ويتحول الشعب إلى ضحية بين تواطؤ الداخل وطمع الخارج. ومتى تنهض اليمن ؟ يوم تقرر أن تكون لها قيادة حقيقية، لا قيادة بيانات وابتسامات من خلف الزجاج. يوم يتوقف من في المنافي عن تمثيل شعب لم يعرفوه، ولم يشعروا بآلامه يومًا. يوم يُفهم أن الكارثة ليست في شراسة العدو، بل في من لا يرى العدو أصلًا.