لم يخلوا تاريخ كل أمة، من ثمّة لحظة مفصلية يقرر فيها العقل الجمعي أن يخلع أغلال الأوهام، أو أن يواصل ارتداء السلاسل بإرادته. وكان الإسلام منذ ولادته مشروعاً لتحرير الإنسان العربي من عبودية النسب والدم، مشروعاً جاء ليهدم معابد العشيرة وينزع الكهانة عن السلالة. لكنّ عبيد النسب لا يطيقون حرية الروح، فسرعان ما نسجوا من دمائهم ميثولوجيا جديدة جعلت من القرابة نسباً مقدساً، وأعادوا الأمة إلى جحيم الحاكم المؤلَّه، فكانت "العترة" و"الولاية" و"الخمس" أدواتهم لاغتصاب حرية الناس باسم الدين، وتقديس دماءٍ لم تقدّم للأمة غير الفتن.
لو كان حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه" نصاً صريحاً بالولاية، لما وقف الصحابة يوم السقيفة يتشاورون فيمن يلي أمرهم. ولما تنازع المهاجرون والأنصار، ولما تُرك عليٌّ في بيته والأمة تقرر مصيرها. أي منطق يقبل أن يوصي رسول الله بالخلافة لعلي، ثم يموت دون إعلانها أمام الأمة؟!
أي عقل سليم يصدّق أن نبياً شهد له القرآن بأنه "بالمؤمنين رؤوف رحيم" يُخفي أمراً بهذا الحجم ويدعه غامضاً حتى تقع الأمة في الفتنة؟!
هذا اتهام صريح للرسول بالتقصير، وخيانة للرسالة، وخيانة للوحي الذي بشّر بفتح كسرى وقيصر، ثم عجز عن أن يُفصح بمن يخلف الرسول على العرب والمسلمين!
لو كان لعلي نصٌّ في الخلافة، ما احتاج أن يقاتل، ولا أن يدعو لنصرته، ولا أن يبقى ستة أشهر في بيته حتى بايع أبا بكر. ولو كان الأمر من الله ورسوله، لأتى به الصحابة طائعين، كما أطاعوه في البيعة تحت الشجرة، وكما صدعوا لأمره يوم قال: "أنفذوا جيش أسامة"، وكما أبكوا عندما وقف يقول: "خذوا عني مناسككم". فهل تجرّأوا على مخالفة وحي سماوي بعد وفاته؟!
ثم أين كان النصّ يوم السقيفة؟
وأين كان يوم بايع الناس عمر وعثمان؟
ولماذا ظل النص مختبئاً ٣٠ عامًا حتى خرج بمخالب السلالة بعد مقتل عثمان؟!
معاوية.. ذلك الذي شوهته دعاية كهنة المعبد الهاشمي.. لم يكن فاسداً ولا فاجراً، بل كان أول من صنع للإسلام أسطولاً بحرياً، وفتح قبرص، وحاصر القسطنطينية، ووحّد تحت رايته أمة كادت تمزقها عصبية السلالة. أما علي، فلم يُسجل له التاريخ فتحاً واحداً في وجه الروم أو الفرس، بل رفع السيف في وجه أبناء الإسلام، وجيّش جيوشه إلى البصرة والكوفة وصفين. جيوش لم تتحرك يوماً صوب بلاد العجم، بل صوب بطون العرب. سيوف الهاشميين لم تُشهر إلا في وجه المسلمين. لم يقطعوا طريقاً على الروم ولا وطئوا بجيادهم أرض كسرى، بل ساروا على صدور العرب، يرفعون لواء.. نحن العترة، نحن أحق بالولاية.
ثمّة من سيقول.. إنما قاتل علي أهل الفتنة. لكن من هم أهل الفتنة؟
عائشة أم المؤمنين؟
وطلحة والزبير، من العشرة المبشرين؟ وعشرات الصحابة من أهل بدر؟!
أي دين هذا الذي يجعل دماء البدريين حلالاً، ودماء الروم معصومة؟!
لماذا لم يرفع سيفه ليغزو قسطنطينية، ورفع سيفه في وجه مكة والبصرة والكوفة؟!
أي ولاية تلك التي تبدأ بدم، وتنتهي بدم، ولا يعرفها إلا الكهنة؟
والأعجب من ذلك، أن سلالة العترة لم تكتف بحلم الحكم، بل اخترعت فريضة الخُمس، وجعلته حقاً إلهياً لهم، ينهبون به أموال الناس باسم الدين. لم يشبعوا من النسب، بل طلبوا المال والسلطان. قالوا.. نحن العترة، لنا خُمس الغنائم، لنا الإمامة، لنا الحكم. ولم يقدّموا في المقابل علماً يُحفظ، ولا سيفاً يُشهر في وجه أعداء الله. صنعوا لنا أساطير كربلاء، وأقاموا المآتم على الحسين، وأغفلوا أن قاتليه كانوا من شيعته وأهل الكوفة. هذا التاريخ الذي شوهته الكهانة، وزورته سلالة النسب، جعل من الخرافة ديناً، ومن العاطفة شريعة.
الإسلام جاء ليقول.. لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. ثم جاء كهنة النسب ليقولوا.. لنا الفضل بالنسب. الإسلام قال "وأمرهم شورى بينهم". فقالوا.. بل أمرها بيننا نحن البطنين. جعلوا من دين الحرية مزرعة وراثية، وشرعنوا العبودية من باب النسب الطاهر. مع أن الله ذاته لم يشفع لنبي.. يوم القيامة.. بنسب، فقال لنوح عن ابنه: "إنه ليس من أهلك". فكيف يُعقل أن يشفع لعلي وأبنائه بحق الدم؟!
لو كانت للدماء قداسة، لكان ابن نوح أحق بالنجاة. لو كانت العترة تنفع، لكان أبو لهب أولى بالجنة.
لقد صنعت السلالة من الإسلام أداة سياسية، وأفرغته من جوهره الإنساني. جعلوه ديناً للدم لا ديناً للعدل. ديناً للعائلة لا ديناً للأمة. الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من العبودية أعادوه إلى قفص النسب. نصّبوا أنفسهم أوصياء على الوحي، وأوصياء على المال، وأوصياء على رقاب الناس. كل ثورة في وجه السلالة سموها خروجاً على الدين، وكل طاغية من عترتهم سموه إماماً معصوماً. وقُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، باسم "الحق الإلهي".
واليوم، ما يزال في اليمن.. وفي غيرها.. من يعيد سيرة الكهانة. الحوثيون ليسوا سوى الامتداد الطبيعي لهذه المدرسة، مدرسة العترة. لا يتحدثون عن دولة، بل عن سلالة. لا عن دستور، بل عن نسب. وكأنّ الله لم يبعث محمداً إلا ليقيم لهم ملكاً في الأرض، ويفرض على الأمة خُمساً لهم، وحكماً أبد الدهر.
إن أخطر أكذوبة عرفها التاريخ العربي الإسلامي هي أكذوبة الولاية والعترة. إنها خيانة لله ورسوله، وخيانة للإسلام نفسه. الإسلام دين الحرية، لا دين العبودية. جاء ليرفع الناس عن أوهام النسب، لا ليضعهم في سلاسل سلالة. وما من سبيل لنهضة العرب والمسلمين إلا بكسر هذه الأغلال. أن نعيد الإسلام إلى جوهره.. ديناً للناس كافة. ديناً للعقل. ديناً للشورى. ديناً للعدل. وأن نرمي خرافات العترة والولاية والخُمس في مزبلة التاريخ.
هذا ما أراده الرسول محمد، وهذا ما يستحقه العرب، والإنسانية.!