في أقصى المدى من الجغرافيا... تتكوّر غزة كجمرة مشتعلة في وجه عالم بارد، وكقصيدة حرة تُرتّلها البنادق في زمن الحصار، وكآية في سورة الكرامة تُتلى على سمع أمةٍ لم تعد تحفظ من القرآن إلا ترتيل الحروف، لا فعل السيوف.
غزة ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل سؤال حارق في ضمير البشرية:
لماذا تُذبح هذه المدينة الصغيرة، كل صباح، وكل مساء، ولا يتحرك الساكنون في نصف الأرض، الذين ينتمون لأمة تُفاخر بملياري نسمة؟
الغثائية... حين يتحول العدد إلى فراغ
ها نحن نعيش المعنى الحيّ المرعب لحديث النبي ﷺ:
"ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
غثاء... أي كثرة بلا تأثير، عدد بلا وزن، ضجيج بلا فعل.
كيف لا نُصاب بالرعب حين نجد الأمة الإسلامية، من طنجة إلى جاكرتا، تنتظر سفينةً صغيرة، تحمل على ظهرها اثني عشر ناشطًا من أوروبا وأمريكا، تحاول أن تكسر حصار غزة، بينما مليارين من المسلمين يكتفون بالمشاهدة والدعاء البارد؟
هل فهمنا الآن ماذا يعني الغثاء؟
اثنا عشر من "الآخر"، هم من يهزون ضمير العالم، بينما نيام هذه الأمة لم تعد تحلم إلا بالأمن الغذائي ومباريات كرة القدم!
أيّ عار أكبر من هذا؟
أي هوان أعظم من أن يتحول العالم الإسلامي كله إلى متفرج يائس، يقف خلف الزجاج، يشاهد المحرقة، ويصفّق لكل من تجرأ واقترب من النار؟
غزة... لا تشكو ضعفًا، بل خذلانًا
غزة لا تبكي لأنها ضحية، بل لأن القاتل يُكافأ، والصامت يُصفق، والناصح يُخوَّن.
غزة لا تئنّ من الألم، بل من الوحشة؛ وحشة تركها العرب وحدها في ساحة المعركة، وتركها المسلمون في قبضة الموت، وأعطوها للمجرم نتنياهو على طبق من صمت وتواطؤ.
لكن غزة رغم ذلك تقاتل...
بجوعها تقاتل، وبحجارها تقاتل، وبأشلاء أطفالها تقاتل.
رجالها لا ينامون، والدم في عروقهم ينشد الشهادة.
هناك، في قلب الخراب، يقف رجال القسام وسرايا القدس، وكل فصائل المقاومة، يحملون أرواحهم على أكفّهم، ويُلقونها على أسوار الدبابات.
القلوب المعلّقة بالله
ما ثبتت غزة إلا لأن قلوب رجالها معلّقة بالله.
وما صمدت تحت القصف، إلا لأنهم علموا أن الله معهم.
إنهم القوم الذين فهموا معنى:
"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون".
جراحهم وقودُهم، ودموع أطفالهم بارودُهم، وأكفُّ أمهاتهم المرتفعة في جوف الليل أعمدة من نور.
إنهم لا يقاتلون من أجل الأرض فقط، بل من أجل ألا يسقط آخر معقل للكرامة في هذه الأمة التي هرمت وتكسرت.
أمة تتفرج على شرفها وهو يُغتال
الخذلان لم يأتِ من الغرب، بل من ذوي القربى.
غزة لا تنتظر من عدوّها رحمة، بل كانت تنتظر من أمتها وقفة.
لكن ما رأت إلا بيانات شجب كرتونية، ومؤتمرات عاجزة، وأصواتًا رخوة لا تليق بمقام الدم والشهادة.
جامعةٌ عربية لا تجيد إلا التأجيل.
منظمةٌ إسلامية لا تجيد إلا التنديد.
حكوماتٌ ترى في غزة عبئًا دبلوماسيًا لا قضية عقائدية.
ومع ذلك... لم تسقط غزة
لم تسقط غزة، ولن تسقط.
غزة لا ترفع راية بيضاء، ولا تدخل مفاوضات استسلام.
هي ساريةُ الحقّ في مهبّ رياح الخذلان.
هي آخر بندقية طاهرة في زمن البنادق المرتزقة.
هي شرفُ الأمة، إن أرادت أن تتطهر.
يا أمة المليارين... هل من رجولة؟
إلى متى يبقى الغربيّ هو من يكسر الحصار، وأنتم أصحاب القضية تنتظرون؟
إلى متى نظن أن الشهادة نصيب الفلسطيني فقط، وأن الدعاء يكفي عن الدم؟
إلى متى نترك صغار غزة يواجهون طائرات الموت وحدهم، ونحن ننام تحت المكيفات؟
إلى متى نُخادع أنفسنا أن "القضية معقدة"، بينما الجرح واضح، والقاتل معروف، والحق ناصع؟
الختام... غزة تصرخ: من يُبايع؟
غزة لم تعد تنتظر، بل تُعلّق الشرف على من يُبايع:
من يرفض أن يكون "غثاء".
من يرى في غزة اختبارًا لرجولته.
من يسمع الأذان من مآذنها فيرى أن الدفاع عنها فريضة.
يا كلّ من بقي له قلب:
لا تُطفئوا النار في قلوب غزة بماء الصمت، بل أشعلوا قلوبكم غضبًا، وانضموا إلى قوافل العزة.
فإذا لم تكونوا من أهل غزة، فكونوا على الأقل من أهل النخوة.
اللهم اجعل لنا قدم صدق في ميادين الكرامة، وارزقنا شرف أن لا نكون من الغثاء، بل من أهل الوقفة والفداء.
---
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الاثنين ٩ يونيو ٢٠٢٥م