آخر تحديث :السبت-14 يونيو 2025-12:21م

اليمن بين “ثبات الصرف” و”صرف الرواتب”: كذبة السلطة في بلدٍ منهار

الخميس - 05 يونيو 2025 - الساعة 03:58 م
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


في اليمن، لم يعد الفرق بين “الحاكم” و”الجلاد” واضحًا. من صنعاء إلى عدن، ومن صعدة إلى حضرموت، ومن الحديدة إلى المهرة، يعيش اليمنيون في بلدٍ ممزق، ليس فقط جغرافيًا، بل أخلاقيًا، اقتصاديًا، وإنسانيًا. على جانبي الصراع، في مناطق الحوثيين ومناطق الشرعية، تتكرر المعاناة وتتناسل الأزمات، بينما يتبادل الطرفان أدوار البطولة الزائفة، كلٌّ منهم يفاخر بـ”إنجاز” وهمي، والنتيجة واحدة: وطن بلا حياة. في مناطق سيطرة الحوثيين، يبدو المشهد أكثر قسوة مما يُصوّر في وسائل الإعلام. هناك، تغيب الدولة بكل مؤسساتها، باستثناء تلك التي تخدم سلطة الجماعة. الموظفون الحكوميون، الذين أمضوا أعمارهم في خدمة الدولة، محرومون من أبسط حقوقهم: الراتب. لم تُصرف الرواتب بشكل منتظم منذ سنوات، ومع ذلك لا يتوقف إعلام الجماعة عن التباهي بأن “العملة مستقرة”، وكأن استقرار الصرف أصبح تعويضًا عن فقدان الرواتب، أو بديلًا عن الغذاء، التعليم، والدواء. الحوثيون يديرون مناطقهم بمنطق الغلبة، لا بمنطق الدولة. الإعلام والأجهزة الأمنية والدينية تم تسخيرها بالكامل لترسيخ صورة “القائد الملهم”، بينما تُدار البلاد كغنيمة حرب، تُوزَّع فيها الامتيازات على الموالين، ويُقصى فيها كل من لا يهتف للصرخة. وحين يسأل الناس: أين رواتبنا ؟ يأتي الرد: “اصبروا، أنتم في نعمة الاستقرار النقدي”، في استهزاء صريح بعقولهم وآلامهم. في الطرف الآخر من المعادلة، في مناطق الشرعية، لا يبدو الحال أفضل. هناك، يُصرف الراتب فعلًا أو هكذا يقال لكنه راتب بلا قيمة. الريال اليمني في مناطق الشرعية ينهار بسرعة جنونية، وأسعار السلع الأساسية ترتفع بلا سقف. يُعلن البنك المركزي عن تدخلات، وتصدر الحكومة تصريحات، وتُعقد المؤتمرات، لكن الواقع الاقتصادي يزداد سوءًا يومًا بعد آخر. الخدمات الأساسية شبه معدومة، الكهرباء والماء شبه موسميتين، الأمن هش، ومؤسسات الدولة رهينة التجاذبات السياسية والمحاصصة. ومع كل هذا، لا يتردد المسؤولون في الظهور على الشاشات للحديث عن “دفع الرواتب”، وكأن صرف فتات من المال المنهار يُعتبر إنجازًا يُكتب في التاريخ ! من السذاجة الاعتقاد أن صنعاء نموذج “صامد” وعدن نموذج “فاشل”، أو العكس. كلا المنطقتين تداران بعقلية الجباية لا الخدمة، وبذهنية المليشيا لا الدولة. في كليهما، يتم تغييب المواطن وتحويله إلى أداة صامتة، خائفة، يائسة، يُطلب منها أن تطيع وتدفع وتتحمل، دون أن تنال شيئًا من كرامة الحياة. الاختلاف الوحيد بين الجانبين هو في الشكل لا في المضمون: في صنعاء، يتم تسويق مشروع ديني طائفي مغلف بشعارات المقاومة، وفي عدن، يتم تسويق سلطة فاسدة مغلفة بشعارات الجمهورية والدولة الاتحادية. لكن النتيجة واحدة: شعب مسحوق، واقتصاد منهار، وبلد يُنهب من الداخل والخارج. الحقيقة التي لا يجرؤ كثيرون على قولها هي أن اليمن لم يعد مجرد بلد يعاني من الحرب، بل أصبح مسرحًا مفتوحًا لنهب منظم. الفساد لم يعد حالة، بل نظامًا متكاملاً يحكم كل شيء: من التعيينات في مؤسسات الدولة إلى إغاثات النازحين، من تجارة الوقود إلى بيع المناصب، من تمرير المشاريع إلى تبرير الجرائم. لم يعد الوطن وطنًا، بل مجرد “حصص” تتقاسمها أطراف الصراع، وكل طرف يطالب بنصيبه منها. رغم كل هذا السواد، لا يزال الأمل ممكنًا، لكنه لن يأتي من ذات الأطراف التي تسببت بكل هذا الخراب. الأمل يكمن في وعي الناس، في قدرتهم على كسر حاجز الخوف، وفي تكتلهم خارج إطار السلطات الفاسدة. لا يمكن لأي مشروع إنقاذ أن يبدأ ما لم يُحاسب من دمّر البلد، أيًّا كانت رايته، ولا يمكن لأي إصلاح أن يُبنى على أنقاض الكذب والاستغلال. في النهاية، اليمن اليوم ليس دولة في حرب، بل وطن اختُطف على يد سلطة لا تستحق أن تحكم، من أي طرف جاءت. والمطلوب اليوم ليس فقط إنهاء الحرب، بل إنهاء الكذب، وإنهاء سلطة السلاح، وبناء دولة الناس، لا دولة الخطابات والشعارات.