آخر تحديث :الجمعة-13 يونيو 2025-07:19م

"الحجّ... مؤتمر التوحيد ورفض الطغيان"

الأربعاء - 04 يونيو 2025 - الساعة 05:08 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب



في ظلال الحجيج، حيث تهتف الأرواح قبل الألسنة: "لبيك اللهم لبيك"، يقف الإنسان عارياً من زيف الدنيا، متجردًا من متاعها، كأنما يعود إلى يومه الأول، يوم خُلق طينًا طاهرًا، لم يمسس قلبه خُبث ولا شهوة. هنا لا جاه، ولا مال، ولا نسب، بل بياض الإحرام يوحّد الناس كما توحّد القبور أجسادهم بعد الفناء.


الحجّ ليس فقط طوافًا وسعيًا ورميًا.. بل هو نداء. نداء إبراهيم، حين أُمر أن يُنادي في الناس بالحج، فنادى، فلبّت القلوب قبل الآذان، ولبّت الأرواح قبل الأجساد.


إنه مؤتمر البشرية الأعظم، حيث يذوب الناس في بوتقة التوحيد، لا فرق لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى. من كل فجٍّ عميق يجيئون، على أقدامهم، أو على ظهور المطايا، أو محمولين على أجنحة الحديد، قلوبهم وجلة، وأعينهم دامعة، يبحثون عن غفرانٍ لا يُشترى، وعن طهرٍ لا يُباع.


هنا، تسقط الألقاب وتضمحل الرايات. فلا "يمني" ولا "مصري"، لا "نجدي" ولا "شامي"، لا "شرق" ولا "غرب". لا شيء إلا "مؤمن"، و"حاج"، و"موحّد". الهوية هنا ليست جواز سفر، بل "لبيك" تخرج من أعماق القلب، لتعلن انتماء الإنسان لله، ورفضه لعبودية البشر، ولطواغيت العصر.


الحجّ قصة الإنسان مع الله. إنه الهجرة إلى النقاء، والعودة من التيه، والتوبة من الضعف. إنه صرخة في وجه المادة، وثورة على عبودية الشهوات، وتأكيد على أن الإنسان خُلق ليرتقي، لا ليهوي.


ولكن... أيّ مفارقة مرّة نعيشها؟

أمةٌ ترمي سبعين حصاة، ثم تعود إلى ديارها لا ترمي حصاة واحدة على من يحتل أرضها ويهتك عرضها ويذبح أبناءها.

أمة حجّت بأبدانها ولم تحجّ بقلوبها، طافت بالبيت، لكنها لم تطُف على قضاياها، ولم تسعَ بين الصفَا والمروة في ميادين العدل والحرية والكرامة.


إنّ الحجّ ليس طقسًا معزولًا عن الحياة. بل هو إعلانٌ عالمي أن التوحيد لا يكتمل إلا بخلع كل صنم، ولو لبس ثياب حاكم. وأن من قال "لبيك" في منى، يجب أن يقولها كذلك في ميادين التحرر والكرامة.


الحجّ هو المساواة في أعظم تجلياتها، حيث يقف الملك والفقير في صفٍ واحد، ويرمون الشيطان سواسية، في مشهد لا يشبهه شيء. فهل رجمنا شياطين الداخل كما رجمنا شياطين منى؟

وهل عرفنا أن هذا الدين ليس طقوسًا باردة، بل نورًا يهدي، وسيفًا يذود، وميزان عدل يُقيم القسط بين الناس؟


في عرفات، تصعد الأرواح وتبتهل، تبكي ذنوبها وتستعطف رحمة ربها، فهل تذكّرنا هناك بمن يبكون من أطفال غزة وصنعاء وبغداد؟

في مزدلفة، يجمع الحاجّ حصاهُ، فهل جمعنا إرادتنا المبعثرة؟

وفي منى، يعلن الحاجّ براءته من الشيطان، فهل أعلنّا براءتنا من أنظمة الطغيان ومنابر الزيف وثقافة الاستسلام؟


الحجّ رسالة.

من لم يفهمها رجع كما ذهب، تعب الجسد ولم تنتفع الروح.

ومن وعى معناها، رجع بولادة جديدة: يكره الظلم، وينصر المظلوم، ويحمل راية التوحيد بكل ما تحمله من عدالة وحرية وكرامة.


ولمن لم يكتب الله له الحج، فليطمئن قلبه، فإن الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها.

من لم يستطع الوصول إلى البيت الحرام، فباب القُرب من الرحمن مفتوحٌ في كل أرض، وكل قلب.

حجه في صدق الإيمان، وفي إقامة العدل، وفي نصرة المظلوم، وفي إحياء شعائر الله حيثما حلّ وارتحل.

كم من حاجٍّ واقفٍ بجوار الكعبة، قلبه غافلٌ لاهٍ! وكم من مؤمنٍ في بيته أو ساحة نضاله، قلبه معلّقٌ بالبيت، وسعيه أبلغ عند الله من طواف الأجساد!


يا حاجّ بيت الله:

لقد جئتَ من بعيد. جُبتَ الصحارى والبحار والسماء، فلا ترجع إلا وأنت تَحمِل معك لسان صدقٍ وقلبًا حيًا، ونفسًا لا ترضى بالهوان.


فالحجّ ليس خاتمة، بل بداية.

وبدايتك الحقيقية هي حين تعود لتبني، لتقاوم، لتعبد الله كأنك تراه، ولتحيا بقيم الأنبياء الذين خلدوا في شعائر هذا الركن العظيم.


هنيئًا لمن وعى.. وعاد من الحج إنسانًا جديدًا، بحجم رسالة، وبقلب نبي.


—-

✍️ عبدالعزيز الحمزة

يوم التروية ٨ ذي الحجه ١٤٤٦هـ

الاربعاء ٤ يونيو ٢٠٢٥م