(قراءة استراتيجية في النكبة المنسية وأطرافها المتبدّلة)
—---
في مثل هذا اليوم ٢٧ مايو ، من عام 2011، سقطت زنجبار، عاصمة محافظة أبين، في يد تنظيم "أنصار الشريعة"، لتدخل اليمن أولى مراحل الانهيار العمودي لمفهوم الدولة، وتحلّ النكبة على سكان المدينة، الذين اضطروا للنزوح الجماعي إلى عدن، تاركين خلفهم البيوت، والذكريات، والخوف.
لم يكن ما حدث في أبين مجرد اجتياح عسكري أو خطأ أمني عابر. لقد مثّل نقطة انعطاف تاريخية في مسار الصراع داخل اليمن، إذ كُشف لأول مرة عن قدرة تنظيم مسلح على اقتلاع السلطة المحلية، وتعطيل مؤسسات الدولة، وفرض نظام بديل بقوة السلاح.
ومع مرور الزمن، ظهر ما هو أخطر من الاجتياح نفسه: غياب المساءلة، واستمرار الإهمال، وتكرار النكبات. فالمئات ممن تضرروا لم يتلقوا تعويضاتهم، والبنية التحتية لم تُرمّم، والدولة اكتفت بذكرى سنوية باهتة، كأن ما جرى صفحة طُويت، لا جرحًا ينزف.
لكن الحقيقة الأهم، أن نكبة أبين لم تكن معزولة عن السياق اليمني العام، بل كانت الخطوة الأولى في سلسلة عمليات منظمة لتفكيك بنية الدولة من داخلها، بوجوه متعدّدة وأسماء مختلفة.
فبعد سنوات قليلة، ظهر في المحافظات الشمالية تنظيم آخر، أكثر تنظيماً وخطراً وأكثر توغلاً، يحمل اسم "أنصار الله". ومع أن الشعارات اختلفت، إلا أن النتيجة كانت واحدة: إسقاط الدولة، ونهب مؤسساتها، وتكريس السيطرة المسلحة خارج الشرعية.
من أنصار الشريعة إلى أنصار الله: تحولات الاسم، وثبات الهدف
كثيرون لا يرون الصلة بين التنظيمين. لكن من يقرأ السياق بعين استراتيجية، يدرك أن ما جرى في أبين لم يكن إلا مقدمة لما سيحدث لاحقاً في صنعاء. فكلا المشروعين – رغم اختلاف اللافتات – اجتمعا في:
نفي مفهوم الدولة كمرجعية جامعة.
احتكار التمثيل لتبرير التسلّط السياسي.
توظيف الفوضى والانقسام لتمرير التمدد الجغرافي.
العمل في ظل فجوات السلطة الرسمية وارتباك القرار الوطني.
بل إن الأهم، هو ما يبدو كـ"تخادم وظيفي" بين المشروعين، تجلى في انسحابات غامضة للقوات الحكومية أمام أنصار الشريعة في ابين ، تكررت لاحقًا بطريقة مشابهة أمام أنصار الله في صنعاء وباقي المحافظات، وسط صمت مريب وتواطؤ ضمني من قوى كانت تدّعي الشرعية.
فكما فُتحت الطريق لأنصار الشريعة لدخول زنجبار، تُركت الطرق لأنصار الله إلى صنعاء، وكأن هناك من كان يُدير هذه العمليات من غرفة واحدة، بأقنعة متعددة، وغايات متكاملة: هدم الدولة، وتمزيق النسيج الوطني، وتكريس البديل المليشياوي.
إن سقوط زنجبار كان يجب أن يوقظ الجميع، لكن الصمت حينها كان أقرب إلى التواطؤ، أو الغفلة العمياء. والنتيجة: بلد يتداعى تحت ضربات المشاريع المسلحة، ويُدفع إلى صراع هويات دامٍ بلا أفق.
ولذلك، فإن الحديث عن نكبة أبين يجب ألا يُختزل في مشهد مأساوي ماضٍ، بل يُستدعى اليوم كجذر استراتيجي لما نعيشه، وكدرس قاسٍ يؤكد أن كل مشروع يتجاوز الدولة، ولو حمل شعار التصحيح أو الثورة، فهو بالضرورة مشروع خراب.
استعادة الدولة: من المعركة العسكرية إلى المشروع الوطني
في مواجهة "أنصار الله"، لا نحتاج فقط إلى الانتصار في الجبهات، بل إلى استعادة مشروع الدولة بكل أبعاده السياسية والعقائدية والاجتماعية. وهذا يتطلب:
١. صياغة استراتيجية وطنية شاملة تُعيد تعريف العدو لا باعتباره "الحوثي فقط"، بل كل مشروع مسلح ينازع الدولة.
٢. تفكيك البنية المليشياوية في كل المناطق المحررة، والتمييز بوضوح بين المقاومة المشروعة، والمليشيا المتغولة.
٣. بناء جيش وطني موحد القرار والعقيدة، لا تابع لمحاور ولا لأمراء حرب.
٤. إعادة الاعتبار للهوية اليمنية الجامعة في مواجهة المشاريع الطائفية والمناطقية.
٥. تمكين القوى المدنية من المشاركة السياسية، ضمت مشروع استعادة الدولة.
وختاماً: لا نكبات بلا تخادم، ولا خلاص بلا دولة
في ذكرى نكبة أبين، علينا أن نُسمِّي الأشياء بأسمائها. من دمّر زنجبار بالأمس، هو ذاته من دمّر صنعاء اليوم، وإن لبس ثوباً آخر. والدمار سيستمر ما لم نكسر الحلقة الجهنمية التي تربط بين المليشيا والدولة المختطفة.
الخلاص لا يكون إلا بدولة عادلة، تحفظ الحقوق، وتحتكر السلاح، وتنهض بالناس لا عليهم.
وما عدا ذلك، فنكبات أخرى تنتظرنا، بأسماء جديدة، ورايات أكثر دموية.
حفظ الله أبين.. وحفظ اليمن من نكبة تتكرّر كلما نسينا من نحن، ومن عدونا.
---
✍️ عبدالعزيز الحمزة
٢٧ مايو ٢٠٢٥م