آخر تحديث :السبت-14 يونيو 2025-12:04م

سُجناء على هيئة أحرار

الخميس - 22 مايو 2025 - الساعة 06:57 م
سناء العطوي

بقلم: سناء العطوي
- ارشيف الكاتب



في مثل هذا اليوم، يصفق البعض احتفالًا بما يسمّونه "عيد الوحدة". يرفعون الأعلام، يطلقون الشعارات، يملأون الشاشات ضجيجًا…

كأنهم لا يسمعون في الطرف الآخر من هذه الخريطة أنين مدينة، وبكاء شعب، وصرخة أرضٍ خُدعت ذات يوم باسم الوطن.


لكن نحن نسمع.

نحن لا ننسى.

نحن الجنوب… شعبٌ كان دولة.


نعم، كنا دولة.

ليست مجرّد اسم على الورق.

كنا دولة بمؤسسات، بنظام، باقتصاد، بتعليم حقيقي، بسياحة نابضة، بثقافة وهوية واضحة.

دولة تحكمها القوانين، لا الأهواء.

دولة كان يُبتعث فيها ابن الفقير إذا تفوّق، لا إذا تدخّل له مسؤول.

كنا نعلّم أبناءنا ليسافروا إلى موسكو، برلين، كوبا، بغداد، القاهرة… ويعودوا ليخدموا وطنهم، لا ليهاجروا عنه.


كان العامل الجنوبي يذهب لمكتبه في المؤسسة العامة بكل فخر.

الطالب يرتدي زيه المدرسي دون أن يضطر للعمل بعد الظهر.

المستشفى تستقبلك بشرف، لا تطلب منك تقريرًا ماليًا قبل أن تنقذك.

الكهرباء لم تكن حلماً، والماء لم يكن نداء استغاثة.

الموظف كان محترمًا، الراتب يكفي، والشارع آمن، والوطن بيت.


وحتى الجيش لم يسلم.

كان لدينا جيشٌ جنوبيٌ محترف، منضبط، تخرّج من أرقى الكليات العسكرية في الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية وكوبا.

جيشٌ خاض معارك الشرف في ظفار، وساهم في استقرار المنطقة، وكان يحظى باحترام الداخل والخارج.

جيشٌ يحمل عقيدة وطنية، لا عقيدة ولاءات.

جيشٌ لا يعرف المليشيات، ولا يُباع في سوق القبائل، ولا يُستأجر عند الطلب.


لكن بعد "الوحدة"، جاء القرار السياسي ليحطم كل ذلك.

أُحيل الآلاف إلى التقاعد القسري، جُرّد الضباط من رتبهم، وصار الجندي الجنوبي عاطلاً، يبحث عن رزقه عند بوابة معسكر، أو في وظيفة لا تليق بتاريخه.


جيشٌ بأكمله تم سحقه، فقط لأنه كان من الجنوب!

حلّوا جيشنا الوطني، وبنوا بدلًا منه جيوشًا من الولاءات، والفساد، والانتهازية.

ومن يومها لم تعد الحدود محروسة، ولا السيادة مصانة، ولا الوطن آمنًا.


ثم قامت حرب… فقلنا لعلها بداية تصحيح.

لكن الجنوب صار ساحة لصراع الكبار، وسوقًا لتبادل النفوذ، وجدارًا يُرمى عليه الفشل.


النفط يُنقل، والناس تموت جوعًا.

الموانئ تُغلق، والشباب يبحثون عن قارب هجرة.

الأسواق مليئة بالبضائع، والبطون فارغة.

الشوارع مزدحمة، لكن الحياة واقفة.


واليوم؟

اليوم يقال لنا "عيد الوحدة"!

هل نضحك أم نبكي؟

هل نحتفل أم ندفن أنفسنا أكثر؟


يا سادة…

نحن لا نكره الوحدة، لكننا كرهنا ما فعلتموه باسمها.

كرهنا الذل، الفقر، التهميش، التزوير، بيع الأرض، كتم الصوت، خيانة الرفاق، وقتل المستقبل.


كرهنا أن نعيش في وطن لا يعرفنا، وإن حملنا هويته.

كرهنا أن نُمنح فتات الحياة بينما تُنهب ثرواتنا أمام أعيننا.

كرهنا أن نُصنّف كـ"انفصاليين" لمجرد أننا نريد العدل.


اليوم، الشعب لم يعد فقط غاضبًا…

الشعب موجوع، مشلول، مُهان، لكنه واعٍ.


نحن سُجناء على هيئة أحرار…

نمشي في الشوارع، نعم، لكن بداخلنا وطنٌ مقموع، ذكريات ممزقة، وأحلام تُقتل كل يوم.


نحن لا نكتب طلبًا للعطف، ولا نصرخ للفت الانتباه.

نحن فقط نسجّل الحقيقة، ونوثّق الشهادة، كي لا يقول التاريخ يومًا إنّا سكتنا.


نحن الجنوب…

نحمل في صدرنا بلدًا كان، وبلدًا يجب أن يكون.

نحمل على أكتافنا مقابر قادةٍ حقيقيين، وخيانات لا تُحصى، ونوايا لم تُطهّر.

نحمل ذاكرةً لا تموت، ووجعًا لم يدوِ بعد.


نحن لسنا فقط شعبًا جائعًا للكهرباء والماء والراتب…

نحن جائعون للكرامة.


ولا شيء أخطر من شعبٍ جائع للكرامة.


فأي وحدةٍ تتحدثون عنها؟

نحن نُشيّعها منذ 1994، ودفنّاها ألف مرة، وكل عام تخرجون لنا بجثتها وتطلبون التصفيق!


لا، لا نُصفق.

نحن ننظر في عيون أبنائنا ونعتذر.

ننظر إلى أرواحنا ونقسم:

أن الجنوب… سيعود.


الكاتبة:سناء العطوي